الاثنين، 2 فبراير 2015

تأملات في الدستور :-  خطيئة الدستور الكبرى
( جمع المال والقوة بيد واحدة )
                                                                                               القاضي
                                                                                                رحيم حسن العكيلي
 نجح مبدأ الفصل بين السلطات في تحقيق هدفه المنشود حينما منع قيام حكومات دكتاتورية جديدة في العالم الغربي ، تأسيسا على فكرته البسيطة بتشتيت وظائف الدولة بين ثلاث سلطات رئيسية ( تشريعية وتنفيذية وقضائية ) لمنع جمعها بيد واحدة ، وبالتالي منع الاستبداد والانفراد بالحكم .
الا انه  لم ينحج معنا ، فبمجرد ان يعتلي احدهم السلطة وتسنح له فرصة مناسبة فانه يباشر بالاستيلاء على كل شئ ، ويسخر كل شئ لتعزيز سلطته الفردية ، ويجمع كل الوظائف والسلطات بين يديه ، او يخضعها له بطريقة او باخرى .
فهل ان العيب في مبدأ الفصل بين السلطات ؟ ام ان العيب في مجتمعاتنا خصوصا في تربية قادتنا ، فكل منهم دكتاتور صغير ، ينتظر فرصة للنمو والاستحواذ والسيطرة التامة على الدولة كلها ، بضمنها الشعب والقضاء والعدالة والاعلام والمجتمع المدني ، فيسخرها جميعا لخدمته وخدمة اغراضه المريضة .
وكثيرا ما يقال بانه يتوجب عدم استنساخ الانظمة وتطبيقها في دولة اخرى دون ملاحظة مدى توافقها مع ظروف تلك الدول المستوردة ، ويبدو ان ظروفنا تتطلب تطبيقا اخر لمبدأ الفصل بين السلطات ، اكثر تطورا واكثرة حدة ووضحا ، عن طريق تبني الفصل بين وظائف الدولة بما يضمن تشتيتها بطريقة اكبر لمنع الاستحواذ والتفرد .
والمعروف من جميع تجارب الاستبداد والدكتاتورية بان السلطة  التنفيذية هي السلطة التي غالبا ما تتغول على باقي السلطات ، وتنفرد بالحكم وتبتلع غيرها من السلطات ، او تخضعها لها وتسخرها لخدمة اغراضها بخرق القانون والدستور وانتهاك  حقوق الانسان وتكميم الافواه  .
 فما هو السبب خلف ذلك ؟ ولماذا لم يحصل ان فعلتها السلطة التشريعية رغم انها اعلى السلطات واسماها ؟ ولماذا لم يسبق ان فعلتها السلطة القضائية رغم انها صاحبة الاداة الاقوى والمسيطر الاكبر على ادوات الحكم الملزمة التي لا يعلوها شئ ؟
السبب يمكن في ان السلطة التنفيذية  تتحكم بعنصري السلطة الحقيقية ( المال والقوة ) او ( الثروة والقهر ) ، فهي تدير موازنة الدولة وتتحكم باموالها ، كما انها تمسك بادوات القهر والقوة من خلال قوى الامن الداخلي والخارجي ( الجيش والشرطة ) .
هذان العنصران ( المال والقوة ) هما جوهر السلطة الفاعلة المؤثرة ، وما عداهما - مما تمسك به السلطتين التشريعية والقضائية – فهي ليست – في حقيقتها - سوى ( وهم ) مكتوب على ورق على شكل ( قوانين وقرارت قضائية ) وهذه لا قيمة له ، اذا تمكنت السلطة التنفيذية من تجاوزها ، وما اسهل ذلك في دولة لم يتأصل بها مبدأ سيادة القانون، فهي ( اي السلطة التنفيذية ) اما ان تسًير التشريع والقضاء طبقا لرغباتها ، او تمتنع عن تنفيذ ما يصدر منهما ، والنتيجة واحدة .
فالسبب – اذن - خلف ابتلاع السلطة التنفيذية للدولة كلها ، وتغولها على السلطات الاخرى فيها ، هو عدم التعادل في القوة بين السلطة التنفيذية  وغيرها من السلطات في الدولة ، فهي اقوى من السلطتين التشريعية والقضائية بكثير بسبب تحكمها بالمال والقوة معا .
ولعل الحل يمكن في توسع اطار فصل السلطات عن طريق نزع احد عنصري السلطة ( المال اوالقوة ) من يد السلطة التنفيذية ، عن طريق الفصل بين سلطتين احدهما ( للمال ) واخرى ( للقوة ) ،اي جعل ( المال ) سلطة ، وجعل ( القوة ) سلطة اخرى . او تفريق المال والقوة بين سلطتين ، عن طريق جعل ( المال ) بيد سلطة وجعل ( القوة ) بيد سلطة غيرها .
فلابد - لاجل منع الاستبداد والدكتاتورية – من اضعاف السلطة التنفيذية الباغية دائما - في دولنا المسكينة - عن طريق نزع احد عنصري القوة منها ، وابقاء عنصر واحد لديها ، هو المال فقط ، فتكون السلطة التنفيذية مسؤولة عن المال والموازنة وانفاقها وتوفير الخدمات والبناء والاعمار فقط . فهي سلطة تقديم الخدمات طبقا للقانون .
وكم هو سهل محاسبة ومساءلة سلطة تنفيذية وديعة كهذه ، ذلك الامر الذي يمثل اخطر مشاكلنا ، اذ لا يمكن مسائلة من يتحكم بالامن والجيش والمال معا ، ما دام باستطاعته اعتقال ، او ترتيب تهمة امنية ، لمن يلح في محاسبته او مسائلته اوكشف مخالفاته وجرائمه ، سواء اكان من الرسميين - كموظفي الهيئات المستقلة او اعضاء مجلس النواب - او غير الرسميين كالاعلاميين والمجتمع المدني .
اما ( عنصر القوة ) الذي تمثله وزارتي الداخلية والدفاع والاجهزة الامنية والعسكرية الاخرى كجهاز المخابرات والامن الوطني فيتوجب اخراجها من يد السلطة التنفيذية لانها هي التي تمكن الدكتاتور من بناء حكم الاستبداد والتفرد بالحكم حينما تجتمع لديه مع المال .
ولما كان المعروف بداهة بان القوى العسكرية والامنية يتوجب ان تبنى على اسس مهنية بعيدة عن التحزب ، وبعيدا جدا عن السياسة ، ليس في تكوينها بل في وظائفها واعمالها ايضا ، لذا فانها اقرب الى الهيئات المستقلة منها الى الوزرارات  الاخرى ، او هي اقرب الى السلطة القضائية من حيث رفض التحزب والتسيس ، لذا فانها اما ان تلحق بالسلطة القضائية وتكون تابعة لها كمكونات مستقلة داخلها ، بحيث تقوم بواجباتها وفق للقانون غير خاضعة لا لحزب ولا لسياسي ولا تنفذ اجندات احد ولا تتأمر على احد وتخضع شأنها شأن المحاكم والقضاة لرقابة شديدة من جهاز للادعاء العام يكون مستقلا قويا وفاعلا ومؤثرا ، اضافة الى خضوعها الى رقابة الهيئات المستقلة الاخرى والمحاكم .
هذا الحل ( واقصد نزع عنصر القوة من السلطة التنفيذية ) سيضعف سلطاتنا الباغية ( التنفيذية ) ويضمن التعادل في القوة بين السلطات المختلفة بما يضمن عدم تغول احداها على الاخرى ، ويوحد سلطة القانون بيد السلطة القضائية فيجمع عندها بين سلطتي ( الحكم بالقانون ) و ( واستخدام القهر في تنفيذ القانون ) ، فهذه مهمة تكون السلطة  القضائية اولى بها من السلطة التنفيذية  بحسب عناصر مهمة كثيرة ، منها المهنية والاستقلال وعدم التحزب والتسيس الذي تتورط فيه السلطة التنفيذية غالبا .
اما الخيار الثاني فهو ان تكون الجهات الامنية والعسكرية ضمن سلطة رابعة تسمى ( سلطة الرقابة ) شبيه بما هو موجود في الدستور الصيني  بدلا من الحاقها بالسلطة القضائية ، فتكون تلك الجهات مكونات مستقلة تخضع لحكم القانون فقط ، ومساءلة السلطة التشريعية والقضائية والمؤسسات الرقابية  الاخرى .
هذا الطرح ليس نظرية جديدة مغايرة لمبدأ الفصل بين السلطات ، لكنه دعوة لاعادة النظر في تطبيق مبدأ الفصل بين السلطات – في بلادنا - بطريقة اكثر نجاعة وفاعلية بمن يضمن منع قيام دكتاتورية جديدة عن طريق التوسع في تشتيت اكبر لوظائف الدولة  .
                                                                                                              القاضي
                                                                                                       رحيم حسن العكيلي
                                                                                                       24 / 10 / 2012



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق