تأملات في الدستور :-
هل للسلطات الدستورية رؤساء
القاضي
رحيم حسن
العكيلي
كثر مؤخرا استعمال مصطلح
رئيس السلطة ، بالاشارة الى من يظن بانه رئيس لسلطة من السلطات الثلاث ، فيشار الى
رئيس مجلس النواب بانه رئيس للسلطة التشريعية ، ويوصف رئيس مجلس القضاء الاعلى
بانه رئيس السلطة القضائية ، فما مدى دقة هذا الوصف ؟ وهل للسلطات الدستورية رؤساء
فعلا وفقا لدستور جمهورية العراق لعام 2005 .
الحقيقة ان مراجعة بسيطة
لنصوص الدستور تظهر بوضوح بان السلطة الواحدة فيه ليست موحدة ، بل ان كل منها ( اي
كل سلطة ) تتكون من اكثر من مكون واحد .
اذ تتكون السلطة التشريعية
وفقا لدستور جمهورية العراق النافذ لعام 2005 من مكونين اثنين هما :- 1- مجلس
النواب . 2- مجلس الاتحاد ، وفقا لما تنص عليه المادة ( 48 ) من الدستور .
اما السلطة التنفيذية فانها تتكون من مكونين
ايضا هما :- 1- رئيس الجمهورية 2- مجلس الوزراء . وفقا لنص المادة ( 66 ) من
الدستور .
اما السلطة القضائية فلها
ست مكونات هي :- 1- مجلس القضاء الاعلى . 2- المحكمة الاتحادية العليا . 3- محكمة
التمييز الاتحادية . 4- جهاز الادعاء العام . 5- هيئة الاشراف القضائي . 6-
المحاكم . وفقا لما تنص عليه المادة ( 89 ) من الدستور .
ولا نأتي بجديد اذا ذكرنا
بان طبيعة العلاقة فيما بين السلطات الثلاث هو الفصل بينها طبقا لنص المادة ( 47 )
من الدستور ، الذي لا يمنع من قيام التنسيق والتعاون ، شريطة ان لا يخرج نهائيا عن
احترام مبدأ الفصل بين السلطات في الصلاحيات والوظائف والاختصاصات كمبدا اساسي لا
يصح العمل بخلافه مطلقا مهما كانت الاسباب والمبررات ، لان التنسيق والتعاون لا
يعني تدخل سلطة في واجبات او صلاحية السلطة الاخرى او التعدي على اختصاصاتها ،
ولكنه صلة للتواصل وتبادل الاراء لضمان قيام كل سلطة بواجبها بشكل يؤمن المصلحة
العامة ويتجاوز الاخطاء والعيوب سواء في التشريع او التنفيذ او الفصل في الخصومات
.
الاان ذلك التنسيق
والتعاون يتوجب ان لا يمس مطلقا الحدود الفاصلة لاختصاص كل سلطة ، وبخلافه يكون
انتهاكا لمبدأ من المبادئ الاساسية في الدستور ، بل هو المبدأ الاهم فيه فيما
يتعلق بنظام الحكم والادارة ، اذ يعد مبدأ الفصل بين السلطات المبدأ العام الذي
يستند اليه مجمل البناء الدستوري في ادارة وتسيير الدولة تشريعيا وتنفيذيا
وقضائيا .
هذه هي – اذن - طبيعة
العلاقة بين السلطات الثلاث القائمة على الفصل بينها، ولكن ما هي طبيعة العلاقة
بين مكونات كل واحدة من هذه السلطات الثلاث ؟
اي ماهي طبيعة العلاقة
بين مكوني السلطة التشريعية وطبيعة العلاقة بين مكوني السلطة التنفيذية وطبيعة
العلاقة بين مكونات السلطة القضائية الستة ؟
وهل تجتمع مكونات كل سلطة
تحت رئاسة واحدة ؟ اي هل ان للسلطات رؤساء ؟
مما لا شك فيه ان مجلس الاتحاد
( المكون الدستوري الثاني في السلطة التشريعية – غير المشكل لحد الان ) لايمكن ان
يتبع المكون الدستوري الاول فيها ( مجلس النواب ) ولا يخضع له ، بل يتوجب ان يكون
غرفة ثانية في السلطة التشريعية لها على - قدم المساوة مع الغرفة الاولى -
الاستقلال التام في اداء مهامها واختصاصاتها طبقا لاحكام القانون ، فلا تبعية
ادارية ولا مالية ولا سياسية لاحد المكونين على الاخر .
فتكون طبيعة العلاقة بين
مكوني السلطة التشريعية هي علاقة استقلال تام ، فيؤدي كل منهما مهامه ويمارس
صلاحياته منفردا، دون ان يكون للمكون الاخر حق التدخل باعماله باي شكل من الاشكال
.
ولايعد – بالتالي - رئيس
احد المكونين في السلطة التشريعية رئيسا على المكون الاخر ، فلا يعد رئيس مجلس
النواب رئيسا لمجلس الاتحاد ، ولن يكون رئيس مجلس الاتحاد رئيسا على مجلس النواب ،
وتكون السلطة التشريعية - بالنتيجة - بلا رئيس ، فلا يعد رئيس مجلس النواب رئيسا
للسلطة التشريعية ، ولا يعد رئيس مجلس الاتحاد رئيسا لها ايضا ، الا ان كل منهما
رئيس لاحد مكوني السلطة التشريعية - المستقلين استقلالا تاما احدهما عن الاخر -
وليس رئيسا للسلطة التشريعية .
فالسلطة التشريعية – اذن –
بلا رئيس .
وقد لا يختلف اثنان على
ان مجلس الوزراء ( المكون الثاني في السلطة التنفيذية ) لا يتبع رئيس الجمهورية (
المكون الاول في السلطة التنفيذية ) ولا يخضع له اداريا ، ولا يعد الرئيس اعلى منه
( اي من مجلس الوزراء ) لا في السلطات ولا في الصلاحيات ، ولو كان اعلى منه
بروتكوليا ، اذ لا يمكنه التدخل بعمل المجلس ، ولا المشاركة في اجتماعاته ، ولا
التصويت فيها ، ولا يمكنه الغاء قرار له ، او تعديله ، او مراجعته ، او الرقابة
عليه باي شكل من الاشكال ، ولا يعد رئيس الجمهورية رئيسا على مجلس الوزراء ، ولو
كان منصب رئيس الجمهورية – بروتكوليا - هو المنصب الاعلى في الدولة بعمومها ، الا
ان ذلك ( اي كونه المنصب الاعلى ) لا يجعله رئيس لما عداه من مؤسسات الدولة ، فهو
المنصب الاعلى تشريفيا لكنه لا يمارس الا الصلاحيات والسلطات التي يمنحها له
القانون والدستور فقط ، فعلوية منصب الرئيس لا تعني امتلاكه كل الصلاحيات ، فهناك
فرق بين علوية المنصب وبين صلاحياته ، لذا فلا حق لرئيس الجمهورية في ان يتدخل في
شؤون مؤسسات الدولة او ادارتها او التدخل في شؤونها رغم انه صاحب المنصب الارفع ،
لان العبرة هنا في في صلاحياته وليس في علوية منصبه .
ونتيجة كل ذلك ، فأن
العلاقة بين جناحي السلطة التنفيذية هي علاقة استقلال تام ، فلا يخضع احدهما للاخر
، ولا يتبعه اداريا ولا ماليا ، بل ان لكل منهما - على قدم المساواة - حرية تامة
عن الاخر في ممارسات سلطاته وواجباته الدستورية دون تدخل من الاخر او وصاية عليه
من اي نوع .
فطبيعة العلاقة بين مكوني
السلطة التنفيذية هي علاقة استقلال تام ، فهي تشبه - الى حد كبير -- طبيعة العلاقة
بين جناحي السلطة التشريعية .
ولا يمكن القول بأن رئيس
الجمهورية هو رئيس السلطة التنفيذية ، ولو كان رئيسا للدولة كلها ، لان ما نعنيه
بالرئاسة هنا هو ( التبعية والارتباط ) .
وما دام رئيس الجمهورية
لا يعد رئيسا للمكون الثاني فيها ( مجلس الوزراء ) ، وكذلك لا يعد ( رئيس مجلس
الوزراء ) رئيسا للسلطة التنفيذية لان لا يعد رئيسا على المكون الاول فيها ( رئيس
الجمهورية ) ، فتكون السلطة التنفيذية بلا رئيس ايضا .
اما السلطة القضائية فأن
لها ستة مكونات - طبقا لنص المادة ( 89 ) من الدستور - هي :-
1-
مجلس القضاء الاعلى . 2-
المحكمة الاتحادية العليا . 3- محكمة التمييز الاتحادية . 4- جهاز الادعاء العام .
5- هيئة الاشراف القضائي . 6- المحاكم .
ولكل واحد من تلك
المكونات الستة مهامه في اطار السلطة القضائية ، الا ان المهام القضائية التي هي
جوهر عمل السلطة القضائية تقوم به بعض مكونات السلطة القضائية فقط دون مكوناتها
الاخرى ، فسلطة الحكم والفصل في النزاعات - التي هي جوهر السلطة القضائية - تنحصر
بالمحاكم التي هي ثلاث من بين ستة مكونات ، هي المحكمة الاتحادية العليا ومحكمة
التمييز الاتحادية والمحاكم الاتحادية الاخرى .
اما المكونات الثلاث
الباقية فانها ذات مهام غير قضائية ، فلا
تمارس مهام او سلطات الفصل في الدعاوى والنزاعات ، بل انها تقوم بمهام اما ادارية
وتنظيمية او مهام رقابية ، فبعضها ذات مهام خدمية وادارية وتنظيمية محضة ، كمجلس
القضاء الاعلى ، والبعض الاخر ذات مهام رقابية داخلية ( سلوكية ) محضة هي هيئة
الاشراف القضائي ، والبعض الاخر ذات مهام رقابية قانونية داخل السلطة القضائية
وخارجها هو جهاز الادعاء العام .
ولكن هل يعد رئيس مجلس
القضاء الاعلى رئيسا للسلطة القضائية ، وهل للسلطة القضائية رئيس بخلاف مثيلاتها (
السلطتين التشريعية والتنفيذية ) التي ليس لها رئيس؟
لم يرد نص في الدستور على
جعل احد مكونات السلطة القضائية الستة
اعلى من المكون الاخر ، و لم يرد نص – ايضا - على ربط احد المكونات بالاخر
، ولم ينص الدستور على جعل احد المكونات تابعا او خاضعا لاخر اداريا او رئاسيا ،
كما لم يرد نص على جعل احد رؤساء تلك المكونات رئيسا للسلطة القضائية ، ولكنه اعطى
لمجلس القضاء الاعلى بمعناه الاول – كمجلس مكون من عدد من المناصب القضائية –
مهمتين عامتين هي ادارة شؤون الهيئات القضائية والاشراف على القضاء الاتحادي .الا
انهما مهمتان اداريتان تنظيمتان ، لا تتعدى شؤون الخدمة والوظيفة والادارة
والتنظيم وتقديم الدعم اللوجستي ، فلا حق للمجلس - ولا رئيسه ولا اي عضو فيه - في
التدخل في العمل القضائي ولا في اعمال باقي مكونات السلطة القضائية ، ولا ممارسة
اختصاصاتها ، ولا تعديل او الغاء قراراتها ، ولا الحلول محلها ولا ممارسة سلطة رئاسية
عليها حينما تؤدي مهامها القانونية ولا حق
للمجلس ولا رئيسه ولا ايا من اعضائه توجيه القضاة للفصل في الدعاوى بطريقة ما ،
ولا شأن لهم مطلقا في كيفية فصل المحاكم في النزاعات التي تعرض عليها ، بل ان
المحاكم لها سلطة اعلى من سلطة مجلس القضاء نفسه ، اذ قد يقاضى امامها وتحكمه
بالزام معين ولا يملك الا تنفيذ ذلك الالزام طوعا او كرها ، والحقيقة ان مجلس
القضاء الاعلى هو في خدمة مكونات السلطة القضائية
وليس العكس ، لانه هو من يقدم خدمات ادارية وتنظيمية للمحاكم ولباقي مكونات
السلطة القضائية وهي لا تقدم له اية خدمات تذكر .
فـ(القضاة)
كاشخاص مستقلون لا سلطان عليهم لغير القانون ، بنص المادة ( 88 ) من الدستور
بقولها :- ( القضاة مستقلون لا سلطان عليهم لغير القانون ، ولا يجوز لاية سلطة
التدخل في القضاء او في شؤون العدالة. ) ، فالقضاء مستقل كسلطة ، والقضاة - حينما
يمارسون الحكم والفصل في النزاعات في محاكمهم - مستقلون داخل السلطة القضائية ،
وهو مبدأ دستوري مستقر في كل دساتير العالم ، التي قد تأخذ به ( اي باستقلال
القاضي ) دون الاخذ بمبدأ ( استقلال السلطة القضائية ) كسلطة ، كما هو الحال في
دساتير الدول التي تأخذ بالنظام اللاتيني كفرنسا ومصر قبل الثورة ولبنان
والعراق في العهدين الملكي والجمهوري قبل
عام 2003.
ولان (استقلال القاضي ) -
كسلطة فصل في الخصومات - هو الغاية الاهم من الاخذ بمبدأ استقلال القضاء ، لذا فأن
السلطة القضائية في مكوناتها التي تمارس سلطات الفصل في الخصومات ( المحاكم ) لا
رئاسات حقيقية فيه ، فالقضاة رؤساء انفسهم فلا سلطان عليهم لغير القانون ،اذ تأبى
طبيعة العمل القضائي ان يكون على القاضي رؤساء لان ذلك يخل بالحكمة من استقلال
القضاء ، ويضرب الغاية من استقلال السلطة القضائية في مقتل ،لان المحاكم ستكون تحت
التأثير المحتمل للادارة القضائية ، ولو كانت تلك الادارة من القضاة ، فهم بشر ،
ولهم اهوائهم ومصالحهم وقد يتأثرون بضغوطات يتعرضون لها – كادارة - فيعكسونها على
المحاكم والقضاة ، فلا يجوز – بالتالي - تسليطهم على القضاة الذين يفصلون في
النزاعات باي شكل من الاشكال ، لان ذلك يعني رفع ( تأثير اداري معين ) عن القضاة
عن طريق افرادهم بسلطة مستقلة ، واعادة اخضاعهم
( لتأثير اداري اخر ) داخل السلطة القضائية ، وذلك يفرغ استقلال السلطة
القضائية من محتواه ، ولا يبقي اي قيمة حقيقة لاستقلال القضاء ، اذ يجعله مبدأ
نظري نص عليه الدستور شكليا كما كان ايام النظام السابق .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق