الاثنين، 28 مايو 2012


فلسفة الاستقلال
وجد الفكر الانساني منذ القدم بان القاضي لا يمكن ان يكون عادلا ويقضي بين الناس بالحق والانصاف الا اذا ضمنا له رفع جميع التأثيرات عليه ، وجعلناه مستقلا بالكامل ، عن الخصوم وعن الحكام ، وبل وحتى عن رؤساءه من القضاة ، لذا قيل لا عدالة الا بقضاة مستقلين ، ثم وجد بان ( استقلال القضاة ) قد يصعب تحقيقه الا بسلطة قضائية مستقلة ، ولكن استقلال السلطة القضائية ليس الا وسيلة لتحقيق استقلال القاضي ، واستقلال القاضي هو ايضا ليس الا وسيلة لتحقيق العدالة ، فتحقيق العدالة هي فلسفة استقلال القاضي ، الذي هو القصد من وراء الاخذ باستقلال السلطة القضائية . لذلك تجد بعض الانظمة القانونية لا تعترف بالقضاء كسلطة مستقلة ، بل يذهب بعضها الى ان العمل القضائي ليس الا من صور العمل التنفيذي ، لذلك فانه يلحقه بوزارة العدل ، مع ضمان ( استقلال القاضي ) باليات وادوات معينة ، وهذا ما تفعله الدول التي تأخذ بالنظام اللاتيني كفرنسا ومصر ولبنان وكثير من دول العالم ، لان المطلوب – عند تلك الانظمة - هو استقلال القاضي فأذا ضمناه بلا ( سلطة قضائية مستقلة ) فلا موجب لجعل القضاء سلطة مستقلة ، ومادام القضاء صنف من اصناف العمل التنفيذي ، فانه يلحق بوزارة العدل ، مع ضمان استقلال القاضي في حدود ما يتطلبه تحقيق العدالة والحكم بين الناس بالقانون والحق والانصاف . الا ان انظمة اخرى تجد ان استقلال السلطة القضائية هو وسيلة مهمة لضمان استقلال القاضي ،فهم كالامريكيين ومن يتبعهم من الدول تجعل القضاء سلطة مستقلة بالكامل .
وكان استقلال القضاء ( كقضاة اوكسلطة ) هو مفتاح الاخذ بفكرة الاستقلال في غيره ، ولكن لاسباب ومبررات اخرى في ضوء المهام التي تقوم بها الجهة المؤسسة المستقلة ،  فلكل استقلال فلسفته واسبابه ومبرراته النظرية والعملية ، فتجد ان استقلال المؤسسات او الهيئات المعنية بمكافحة الفساد يعود الى انها لا تستطيع القيام بدورها بجدية وفاعلية الا اذا رفعت عنها كل اسباب الضغط والتأثير بحيث تكون قادرة على ملاحقة جميع الملفات وادعاءات الفساد والتحقيق مع جميع الاشخاص مهما علت مناصبهم وعظم نفوذهم ، دون ان يعطلها ضغط سياسي او نفوذ حزبي او عشائري او اجتماعي ولا تأثير او ارادة ادارية او رئاسية ، وهي باعتبارها جهة معنية بملف خطير كالفساد قد تكون خطرا على الاخرين لذلك فان خضوعها لجهة ما قد يجعلها خطرا محدقا بالجهات الاخرى ، فقد يخرق استقلال السلطة القضائية بحجة العمل ضد الفساد حينما تكون هيئة مكافحة الفساد معنية بمكافحة الفساد في السلطة القضائية ، لذلك كان الاتجاه الى جعل هيئات مكافحة الفساد جهات مستقلة بالكامل عن كل السلطات والمؤسسات بالدولة.
وكانت الفلسفة نفسها خلف الاخذ باستقلال الجهات المعنية بالتدقيق المالي والمحاسبي على مفاصل الدولة والقطاع العام ، اذ ان تلك الجهات قد تجامل او تتغافل عن كثير من الجرائم والمخالفات المالية ، الا اذا ضمن استقلالها الكامل ، لكي لا تخشى من الكشف عن اي تجاوزرات او اختلاسات تكتشفها خلال عملها التدقيقي ، ولكي تقييم اداء المؤسسات على اسس ومعايير دقيقة لا مجاملة ولا خشية فيها .
والخوف على حرية الاعلام والخوف من تقييد حرية الناس في تلقي المعلومات وتداولها ونشرها في وسائل الاتصالات والانترنيت والصحف والفضائيات وغيرها هو الفلسفة وراء استقلال هيئة الاعلام والاتصالات ، فالحق في تلقي المعلومات ونشرها وتداولها حق دستوري لا يجوز لاية سلطة في الدولة تقييده او منعه باي حال من الاحوال ، فاذا اراد الدستور ضمانه ومنع تقييده الا لمصالح عليا تتعلق بامن المجتمع وغايات عليا ، فلابد له ( اي للدستور ) من اخراجه من سلطة وصلاحية جميع السلطات وايداعه بيد هيئة مستقلة ، تودع ادارتها الى ثلة من المختصين الشجعان المؤمنين بهذا الحق ، والعالمين باهميته وخطورته بالنسبة للشعب ، تتولى حمايته وتنظيمه بمن يؤمن منع تقييده او التعدي عليه من اي سلطة في الدولة لانه حق خالص للشعب لا يجوز المساس به .
اما عن استقلال مفوضية الانتخابات فانه يعود الى ان ارادة الناس في انتخاب قادة البلاد ونواب الشعب يجب ان يضمن التعبير عنها على اسس من النزاهة والعدالة والمساواة ، وذلك تضمنه جهة مستقلة ، لا تخضع لتأثير اي سلطة او جهة في الدولة ، اذ ان خضوعها لاي تأثير سياسي او حزبي او رئاسي او اداري او عشائري ... الخ قد يؤدي الى تزوير الانتخابات او تزوير نتائجها او التلاعب بها لمصلحة شخص او جهة او حزب او كتلة على حساب غيرها  .
وهكذا تجد خلف كل استقلال فلسفته ومبرراته المعتبرة ، فلا تعطي الدساتير او القوانين الاستقلال جزافا بلا حكمة ولا فلسفة ، لذلك يتوجب الحرص على ضمان الاستقلال احتراما للغايات والمبررات التي كانت خلفه ، وبخلافه تهدر الحكمة منه ( اي من الاستقلال ) ، ويختل النظام ، ولا تبقى اي غاية معتبرة من قيام او انشاء المؤسسات المستقلة ، فيكون الغائها خير من بقائها .
                                                                                                           
                                                                                                         القاضي
                                                                                                   رحيم حسن العكيلي  
        

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق