الاثنين، 28 مايو 2012



لا تشريع
الا عن طريق السلطة التنفيذية

اصدرت المحكمة الاتحادية العليا حكمين بالعدد ( 43 و44 / اتحادية / 2010 ) في 12 / 7 / 2010 جاءت بهما بحكم بالغ الاهمية والخطورة في تفسير نص المادة ( 60 ) من دستور جمهورية العراق حيث قضت بالغاء قانونين هما قانون الغاء وزارة البلديات والاشغال العامة وقانون فك ارتباط دوائر الشؤون الاجتماعية - بطعن قدم من الامانة العامة لمجلس الوزراء - على اساس عدم جواز اصدار القوانين بناء على ( مقترحات القوانين ) بل لا يصح اصدارها الا بناء على ( مشروع قانون ) تعده ( السلطة التنفيذية  ) حصرا . اذ تقول المحكمة الاتحادية العليا:- ( ... ان مشروعات القوانين خص بتقديمها السلطة التنفيذية ويلزم ان تقدم من جهات ذات اختصاص في السلطة التنفيذية لتعلقها بالتزامات مالية وسياسية ودولية واجتماعية ، وان الذي يقوم بايفاء هذه الالتزامات هي السلطة التنفيذية وذلك حسبما نص عليه الدستور في المادة ( 80 ) منه ، وليست السلطة التشريعية ، وحيث ان دستور جمهورية العراق رسم في المادة ( 60 ) منه منفذين تقدم من خلالهما مشروعات القوانين ، وهذا المنفذان يعودان حصرا للسلطة التنفيذية وهما رئيس الجمهورية ومجلس الوزراء ، واذا ما قدمت من غيرهما فأن ذلك يعد مخالفة دستورية لنص المادة ( 60 / اولا ) من الدستور ، وان الفقرة ( ثانيا ) من المادة ( 60 ) من الدستور اجازت لمجلس النواب تقديم مقترحات القوانين عن طريق عشرة من اعضاء مجلس النواب او من احدى لجانه المختصة ، ومقترح القانون لا يعني مشروع قانون لان المقترح هو فكرة والفكرة لا تكون مشروعا ويلزم ان يأخذ المقترح طريقه الى احد المنفذين المشار اليهما لاعداد مشروع القانون وفق ما رسمته القوانين والتشريعات النافذة اذا ما وافق ذلك سياسة السلطة التنفيذية التي اقرها مجلس النواب ومن متابعة القانون موضوع الدعوى المشار اليه انفا وجد انه مقترحا تقدمت به لجنة العمل والخدمات في مجلس النواب الى هيئة رئاسة مجلس النواب ولم يكن مشروع قانون تقدمت به السلطة التنفيذية واستنفذ مراحله قبل تقديمه ، وحيث تم اقرار هذا القانون من مجلس النواب ومجلس الرئاسة ونشر في الجريدة الرسمية دون ان تبدي السلطة التنفيذية الرأي فيه ضمن التزاماتها السياسية الداخلية منها والدولية وهذا مخالف للطريق المرسوم لاصدار القوانين من الناحية الدستورية... ) انتهى الاقتباس .
ان الحكمين المبحوثين تصديا لتفسير المادة ( 60 ) من الدستور التي نصت :- ( اولا :- مشروعات القوانين تقدم من رئيس الجمهورية ومجلس الوزراء . ثانيا :- مقترحات القوانين تقدم من عشرة من اعضاء مجلس النواب او من احدى لجانه المختصة . ) .ويبدو واضحا ان النص تحدث عن امرين :- الاول :- ( مشروعات القوانين ) والثاني :- ( مقترحات القوانين ) . والفرق الوحيد بينهما وفق ما جاء به النص هو جهة تقديمها ، فـ ( مشروعات القوانين ) تقدم من السلطة التنفيذية اما ( مقترحات القوانين ) فتقدم من السلطة التشريعة .ولكل جهة طريقان للتقديم :- اذ تقدم السلطة التنفيذية ( مشروعات القوانين )اما عن طريق رئيس الجمهورية اوعن طريق مجلس الوزراء.اما السلطة التشريعية فتقدم ( مقترحات القوانين )اما عن طريق عشرة اعضاء من مجلس النواب،او عن طريق احدى لجانه المختصة )   
وينتهي عند هذا الحد ما يمكن استقاءه من نص المادة المذكورة من وجه نظر تفسيرية ، الا ان المحكمة الاتحادية العليا جاءت بامور خطيرة اخرى اسندتها للمادة ( 60 ) غير ما ذكرناه انفا اهمها :-
1-  رفض الاعتراف لمقترحات القوانين بصفة ( مسودات قوانين ) وحصر تلك الصفة بمشروعات القوانين فقط ، واقامت المحكمة التفريق بين (مشروع القانون) و(مقترح القانون) ليس على معيار ( جهة تقديم كل منها ) ، بل اقامته على اساس الاختلاف بينهما في مضمون كل منها وقيمته في العملية التشريعية واليات التعامل معه ، فلم تنظر الى ( مقترح القانون) على انه ( مسودة قانون ) كما هو حال ( مشروع القانون ) بل عدته مجرد ( فكرة ) . كما انها فرقت بينهما في القيمة فجعلت المشروع صالحا لاصدار التشريع بالاستناد اليه دون المقترح ، كما فرقت بينهما على اساس اليات التعامل مع كل منهما ، اذ لابد للمقترح ان يتحول الى مشروع لكي يكون صالحا للنظر به كمسودة قانون . 
2-   لا يجوز اصدار قانون الا بناء على ( مشروع قانون ) . وذلك يعني بان السلطة التشريعية لا تستطيع تشريع أي قانون الا بناء على مشروع قانون تعده السلطة التنفيذية .
3-  لا يجوز للسلطة التشريعية اقتراح او اعداد او تقديم ( مشاريع القوانين ) ، اذ ان ذلك ( أي تقديم مشاريع القوانين ) صلاحية حصرية للسلطة التنفيذية بواسطة احدى جناحيه ( رئيس الجمهورية او مجلس الوزراء ) . وهذه نقطة لا اشكال فيها من الناحية التفسيرية تمسكا بحرفية والفاظ النص ، الا انها تشكل اشكالا دستوريا كبيرا حينما يضاف اليها بان ( :- لا تشريع الا بمشروع قانون ) . لان ذلك يعني :- ( بان لا تشريع الا بموافقة السلطة التنفيذية ) ، لان مشاريع القوانين لا تقدم الا عن طريقها .
4-  لا يجوز اصدار قانون بناء على ( مقترح قانون ) تقدمه السلطة التشريعية . لان ( مقترح القانون ) هو فكرة ، والفكرة لا تصلح ان تكون ( مشروعا ) ولا تشريع الا بمشروع قانون من السلطة التنفيذية  .وبالتالي لا تستطيع السلطة التشريعية الانفراد بالعملية التشريعية ، بل ان مقترحاتها للقوانين يجب ان تذهب الى السلطة التنفيذية ، لاعداد مشروع قانون بها - اذا ما وافق مجلس الوزراء على المقترح ( الفكرة )-  ثم تقديمه كمشروع قانون ، وحين ذاك فقط يستطيع مجلس النواب النظر بتشريعه . أي ان مقترحات القوانين التي تقدمها السلطة التشريعية ، انما يتحدد مصيرها في ضوء ما تراه السلطة التنفيذية ، أي ان مقترحات قوانين السلطة التشريعية تكون دائما تحت رحمتها .
وكل ذلك يتمخض باختصار عن نتيجتين في غاية الخطورة :-
الاولى :-لا يجوز تشريع القوانين الا بناء على ( مشروع قانون ) تقدمه السلطة التنفيذية حصرا .
 الثانية :- ان مصير ( مقترحات القوانين ) التي تقدمها السلطة التشريعية مرهون برأي وارادة السلطة التنفيذية .
وهذه النتيجتان تجتمعان لننتهي الى نتيجة خطيرة واحدة هي ان السلطة التشريعية لا تمارس مهامها في تشريع القوانين الا بواسطة السلطة التنفيذية . فالعملية التشريعية – اذن - كلها لا يمكن تحريكها الا  بواسطتها ، وذلك يعني ان اهم وظائف السلطة التشريعية وهي سن القوانين مرهون بيد سلطة اخرى ، وفي ذلك تعطيل كامل لمبدأ الفصل بين السلطات ، اذ ان ذلك يرهن دور السلطة التشريعية الرئيسي وهو تشريع القوانين بيد السلطة التنفيذية ، فاين نحن هنا من فصل السلطات وممارسات النظام البرلماني الذي اخذ دستورنا به كأطار عام ، ما دامت اهم السلطات في الانظمة البرلمانية ( السلطة التشريعية ) لا تستطيع ممارسة دورها في التشريع الا عن طريق السلطة التنفيذية .
الا ان فهم المحكمة الاتحادية العليا المبحوث فيه جاء مخالف تماما للفهم الذي بني عليه النظام الداخلي لمجلس النواب ، اذ ان النظام المذكور نظر الى ( مشروع القانون ) و ( مقترح القانون ) على قدم المساواة فيما يتعلق بكونهما ( مسودات قوانين ) يصلحان للنظر في اصدارهما كقوانين ، بل ولم يفرق كثيرا في طرق واليات التعامل معهما فلو راجعت المواد ( 31 ) و ( 87 ) و ( 112 ) و ( 120 ) و( 122 ) و( 128 ) من النظام الداخلي لمجلس النواب لوجدته يوجب ايداع ( مشاريع ) او ( مقترحات ) القوانين الى رئيس مجلس النواب ليحيلها الى احد لجانه الدائمة لدراستها او تدقيقها او ابداء الرأي فيها ، ثم تودع الى مجلس النواب للنظر في تشريعها ، أي ان كلاهما يصلح للتشريع بالاستناد اليه .
الا ان فهم المحكمة الاتحادية العليا نسف كل تلك الاحكام في النظام الداخلي لمجلس النواب وعدها غير دستورية بطريق غير مباشر .
وبغض النظر عن اتفاقنا او اختلافنا مع التفسير الذي تبنته المحكمة الاتحادية العليا الموقرة ، اذ لا اهمية عملية لاختلافنا معها، لان احكامها ملزمة لجميع السلطات وهي الجهة المختصة في الحكم بعدم الدستورية وفي تفسير نصوص الدستور ، ولكن الاهمية تبدو هنا في انها انما كشفت عن عيب خطير في صياغة الدستور ، اذ انه تفاصيله تتناقض تماما مع مبادئه العامة ، فهو اذ يقرر الاخذ بمبدأ الفصل بين السلطات الذي يقتضي ان تنفرد كل سلطة بمارسة دورها ووظائفها دون تدخل السطات الاخرى ، الا انه يعود في التفاصيل فيرهن ممارسة السلطة التشريعية لاهم ادوارها ( التشريع ) بيد السلطة التنفيذية ، ويغل يدها عن ممارسة أي دور - ولو كان اقتراح القوانين او اعداد مشروعات القوانين - الا عن طريق السلطة التنفيذية حصرا .
 والحقيقية ان ذلك عيب يكشف عن ضرورة التعديلات الدستورية وضرورة الاسراع في اقرارها .
ولا تقف اهمية وخطورة حكمي المحكمة الاتحادية المبحوثين عند هذا الحد بل انهما جاءا باجتهاد اخر تعلق باسس ومبادئ الحكم بعدم الدستورية ، اذ ان المستقر هو ان الحكم بعدم دستورية القانون انما يكون حينما تخالف نصوص القانون حكم من احكام الدستور ، كأن يقضي القانون بشكيل محكمة خاصة فيكون واجبا الحكم بعدم دستورية ذلك النص لانه يخالف ما نص عليه الدستور بمنع انشاء المحاكم الخاصة ، أي ان الحكم بعدم دستورية قانون يكون بالاستناد الى عيب دستوري في داخل القانون ذاته أي عيب في نصوصه . الا ان المحكمة الاتحادية العليا الغت القانونين بموجب الحكمين محل البحث ليس لانهما خالفا في نص فيهما احكام او نصوص الدستور ، بل حكمت بعدم دستوريتهما لوجود خلل في اجراءات اصدار القانونين ، أي حكمت بعدم دستوريتهما بناء على عيب خارج القانونين وليس عيب فيهما ، اذ ان الخطأ في اجراءات اصدار القانون هي عيوب خارج القوانين وليس فيها ، فالحكمة الاتحادية الموقرة لم تنسب أي مخالفة دستورية لنصوص القانونين فلم تقل ان نص ما فيهما او كل نصوصهما مخالفة للدستور ، ولكنها ترى ان هناك خطأ في اجراءات اصدارهما . فالحقيقية ان المحكمة الاتحادية لم تقض بعدم دستورية القانونين في الحكمين المبحوثين ، ولكنها قضت بعدم دستورية اجراءات اصدار القانونين، وهذان امران مختلفان تماما.
وهذا الاختلاف يرتب اختلاف جوهري اهم هو اختلاف اثار كل منهما ، اذ ان الاثر المترتب على الحكم بعدم دستورية نص قانوني وفقا للرأي المستقر هو عدم جواز تشريع مثل ذلك النص نهائيا ، ولا يمكن العودة الى اصداره مجددا لانه يتعارض مع الدستور بنصوصه ومضمونه ، اما الاثر المترتب على الاحكام الصادرة بعدم الدستورية وفقا للاجتهاد الجديد ( وهو الحكم بعدم الدستورية لوجود خطأ في اجراءات اصدار القانون ) فانه لا يترتب عليه منع اصدار القانون مجددا ، بل يصح اصداره مجددا ، ولكن بالطريقة الصحيحة لاصدار القوانين ، ذلك ان المحكمة الاتحادية - في الحقيقية - لم تقض بعدم دستوريته ، ولكنها قضت بعدم دستورية اجراءات اصداره . فليس من عيب دستوري في القانون ، ولكن هناك عيب دستوري خارجه فقط .

                                                                                        القاضي
                                                                                 رحيم حسن العكيلي
                                                                               

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق