الاثنين، 28 مايو 2012


   هيئات ديمقراطية بعلاقات دكتاتورية                                                   
                                                           
يكاد يتفق الجميع في العراق على وجوب احترام استقلال الهيئات المستقلة ، خصوصا اهمها واخطرها في البناء الديمقراطي ، هيئات المادة ( 102 ) من الدستور وهي المفوضية العليا المستقلة للانتخابات ومفوضية حقوق الانسان وهيئة النزاهة ، يضاف اليها هيئتين مستقلتين لا تقل خطورة واهمية وهي البنك المركزي العراقي وهيئة الاعلام والاتصالات .
الا ان الخلاف يتعمق ويشتد حين البحث في ( طبيعة علاقة تلك الهيئات ) بغيرها من السلطات والمؤسسات في الدولة .  وتتجاذب الاراء في هذا الموضوع نصوص وقواعد يسحبها كل طرف الى جانبه لتحقيق مصالحه الانية ، دون النظر الى مستقبل البلاد وضرورات البناء الديمقراطي فيه . فالبعض يتنبى رأي ما في هذه المساءلة ليس رغبة في اقرار القانون واحترام النظام الديمقراطي ، بل هو يتبنى ذلك الرأي اما لانه يحقق مصالحه بوضعه الحالي ، في حين يتبنى الاخر رأي مخالف تماما للاول اما لعدم الثقة بالطرف الاخر ، او لاستعمال ذلك الرأي كسلاح في المعركة ضده .
فذهب رأي الى وجوب ارتباط تلك الهيئات بسلطة ما ، او بجهة ما ، لانها من غير المقبول ان تكون ( معلقة بالسماء ) على حد وصف هذا الفريق . وينقسم هذا الفريق الى رأيين ، الاول يرى ارتباط تلك الهيئات بمجلس الوزراء باعتبارها تقوم بمهام تنفيذية ، في حين يرى الجانب الاخر بانها يجب ان ترتبط بمجلس النواب ، باعتباره ممثل الشعب والجهة الرقابية الاعلى في البلاد .    
في حين يرى فريق ثالث – بحق - بان تلك الهيئات يجب ان تكون مستقلة  استقلالا تاما ، فلا ترتبط باي جهة كانت ، فهي مؤسسات تدير نفسها بنفسها ، ولا سلطان عليها لغير القانون ، على حد قول المحكمة الاتحادية العليا في قرارها الصادر عام 2006 . اما علاقات تلك الهيئات المستقلة بالسلطات الثلاث في الدولة فانها يجب ان تبنى على اساس التنسيق والتعاون والتكامل . فهي لا ترتبط باي جهة ولا تخضع لاية جهة ، ولا تتلقى اوامر او توجيهات من اية جهة ، ولكنها تنسق وتتعاون وتتكامل مع الجميع ، على اساس علاقة الند بالند وليس على اساس علوية جهات اخرى فوقها او على اساس خضوعها لجهة اخرى ايا كانت .
ان العلاقة بين مؤسسات الدولة في الانظمة الدكتاتورية تقوم على خضوع اي منها لاخرى اعلى  ، لكي تنتهي جميع مؤسسات الدولة خاضعة الى جهة او فرد واحد يتحكم بها جميعا  ، فالعلاقة هنا هي علاقة تسلط وعلوية ، اما في الانظمة الديمقراطية فان العلاقة بين المؤسسات العامة تقوم على التعاون والتنسيق والتكامل ، وليس على اساس التسلط اوالعلوية او على اساس ان احدها يأمر والاخر ينفذ ، فلا يقبل ان تحكم الدولة بجهة او فرد يتحكم بجميع وظائفها ومفاصلها ، فالمهام والوظائف والصلاحيات في الدول الديمقراطية تتوزع بين جهات مختلفة لا يحكم بعضها بعضا ، بل تقوم العلاقة بينها على التنسيق والتعاون ، دون ان يخضع اي منهما للاخرى ، فهي جميعا يحكمها القانون ، ولا تحكم بعضها بعضا . والا فان القول بوجوب ارتباط مؤسسات الدولة جميعا بجهة اعلى منها يؤدي - بداهة - الى ان تنتهي جميع وظائف الدولة ومؤسساتها محكومة بجهة او فرد ما ، ولن يكون في الدولة سوى رأي او صوت واحد ، وهذه نتيجة غير مقبولة في البناء الديمقراطي ،   
ان الداعين الى ارتباط الهيئات المستقلة بجهة ما مازالوا متأثرين بنظام الحكم الاستبداي وتقاليده وقيمه المركزية ، فهم يعتقد بوجود خضوع مؤسسات الدولة كلها الى جهة او فرد او مؤسسة عليا ،  وبعض هؤلاء يرى وجوب الخضوع لمجلس النواب في حين يرى اخرون وجوب خضوع الجميع الى رئيس الوزراء او مجلس الوزراء ، فمن غير المعقول – عند هؤلاء - ان تكون هناك جهة او مؤسسة غير خاضعة لجهة ما ، والا فان المؤسسات او الهيئات المستقلة - عندهم - تكون ممالك  او دول مستقلة داخل الدولة .
فلو سأل هؤلاء انفسهم بمن ترتبط السلطة القضائية ، او بمن يرتبط مجلس القضاء الاعلى وهو ليس الا جهة ادارية تدير شؤون القضاة وتوفر الدعم اللوجستي للمحاكم ؟ وبمن يرتبط رئيس الجمهورية ؟ او بمن يرتبط رئيس مجلس الوزراء ؟ او بمن يرتبط مجلس الوزراء ؟ او بمن يرتبط مجلس النواب ؟ او بمن يرتبط رئيس مجلس النواب ؟ ان كل هؤلاء مؤسسات عامة ومناصب رسمية في الدولة ، لا ترتبط باي جهة كانت ، ولا تخضع الا للقانون ، فالقانون هو من يحكمها ، وليس جهة او فرد ، وهي تخضع للرقابة من جهات مختلفة كديوان الرقابة المالية وهيئة النزاهة والقضاء ومجلس النواب والاعلام والمجتمع المدني  ... الخ . وكذلك الهيئات المستقلة فهي مؤسسات يقودها مهنينون متخصصون محايدون مستقلون لا ترتبط باي جهة كانت ، ولا تخضع لاية جهة ، يحكمها القانون ، وتدير نفسها بنفسها وفقا لاحكام القانون ، ولكنها جميعا خاضعة لرقابة مجلس النواب ولرقابة جهات الرقابة المتخصصة اضافة الى الاعلام والمجتمع المدني . فالهيئات المستقلة - في طبيعة علاقاتها بغيرها من سلطات ومؤسسات الدولة - مثلها مثل مكونات السلطة القضائية ، باستثناء فرق واحد هو عدم خضوع مكونات السلطة القضائية لرقابة مجلس النواب ، في حين تخضع الهيئات المستقلة لرقابة مجلس النواب .
فالاستقلال التام للهيئات المستقلة ، ليس بدعة في النظام القانوني العراقي ، بل هو شبيه باوضاع قانونية اخرى ، مع اختلاف مهم يحسب لها ، هو ان الاستقلال لرئيس الجمهورية ولرئيس مجلس الوزراء ولرئيس مجلس النواب هو استقلال ممنوح لجهات سياسية لها مصالحها الحزبية الضيقة وطموحاتها التي قد تتعارض مع المصلحة العامة  ، كما انها جهات مسنودة تدعمها احزاب وقوى متنفذة فتصعب رقابتهم ومحاسبتهم ، واحتمالات خرقهم للقانون وتجازوهم على صلاحياتهم اكبر لكل تلك الاسباب ، في حين ان استقلال الهيئات المستقلة هو استقلال ممنوح لمستقلين لا تتحكم بهم المصالح الحزبية ، وهم غير مسنودين من احزاب او جهات متنفذة ، فيسهل رقابتهم ومحاسبتهم ، واحتمالات مخالفتهم للقانون او خروجهم عن حدود صلاحياتهم اقل بكثير منها لدى الجهات او المؤسسات ذات الطبيعة السياسية . فالاستقلال التام للهيئات المستقلة اقل خطورة وايسر في مراقبته ومحاسبته ، وهو في غاية الاهمية للبناء الديمقراطي الصحيح .
الا ان البعض في العراق لا يريد ان يفهم ذلك لان مصالحه تتعارض اليوم مع استقلال تام لتلك الهيئات ، ويصعب عليه ان يفهم وجود هيئات او مؤسسات لا يحكمها من فوقها احد ، فهو يعتقد بعدم منطقية وجود مؤسسات غير خاضعة لجهة او فرد ما . و ذلك نابع – في الحقيقية - من قصور في فهم الانظمة القانونية الديمقراطية المتحضرة ، ومن عدم قدرة البعض على التخلص من قيم ومفاهيم النظام الدكتاتورية المركزية ،الا ان السبب الاهم هو عدم قدرة هؤلاء على التضحية بمصالحهم السياسية او الحزبية الانية الضيقة لحساب المصالح العامة ، وهم في ذلك محكمون بوضعهم الحالي ، فلو فكروا بان غيرهم آت – لا محالة - بعدهم ، فهل يفضلون ان يعطوه سيطرة على تلك الهيئات الخطيرة  ؟ ام يضمنوا من الان استقلال تام لها ؟
ان مصلحة هذه البلاد الساعية بصعوبة بالغة نحو الديمقراطية  هو في ضمان الاستقلال التام للهيئات المستقلة ، ومنع اخضاعها لجهة ما اي كانت ، وحماية هذا الاستقلال بدفاع الجميع عنه ، وضمانه برؤساء مهنيين مستقلين مختصين علماء ، لا يتدخل في اعمالهم وادائهم لمهامهم اي جهة او فرد مهما علا منصبه ومكانه . وان تبنى علاقاتها مع غيرها على اساس التنسيق والتعاون والتكامل بين الند والند وليس على اساس خضوعها او علوية جهة اخرى فوقها .

                                                                                                                                      القاضي
                                                                                                                                 رحيم حسن العكيلي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق