مدارس الفساد
حينما يتجذر الفساد في مجتمع ما ، تسود فيه قيم خاصة
تختلف فيما عداه من المجتمعات ، اخطرها ان يقدم صاحب الرصيد البنكي في الاحترام
والتقدير على صاحب الرصيد العلمي، بل ان الرصيد العلمي يثير السخرية ، امام رصيد
السلطة ولو لمن زور شهادته الدراسية . وتتراجع قيم العمل والانتاج امام قيم الكسب
السريع ، وتتدهور قيم العلم والثقافة امام قيم الربح والثروة ، حتى تصبح الاخيرة
هي المحرك الاساسي للطبقة السياسية الحاكمة ، ليس لاغراض جمع الثروات غير المشروعة
فقط ، بل لضمان البقاء في السلطة او لانتزاعها لاحقا .
ولكن ما هي العوامل الواقعية التي تؤدي الى تجذر الفساد
في المجتمعات الى الحد الذي يغير قيمها ؟
ان القيادات السياسية التي تمارس الفساد اوتدافع عنه او
تنكره رغم ادعائها امام الشعب محاربته ،تلك القيادات المجروحة التي لا تكون فوق
مستوى الشبهات لدى الشعب ، هي مدارس للفساد والافساد ومعامل منتجة للقيم التي
تحتضن الفساد ، وهذه تصنعها و تكون دليلا قاطعا عليها مظاهر معينة ، هي – عينها -
عوامل تجذر الفساد في المجتمع . اهمها :-
1-
تقديم السياسة على القانون :- فتصبح الحسابات السياسية بديل عن الحسابات القانونية
في حل مشاكل الدولة والمجتمع ، بل حسابات السياسسين واتفاقاتهم ومصالحهم هي الفيصل
في تقرير مصير الضالعين بالفساد ، فتتقدم المصالح الحزبية ومقتضيات التوافق
السياسي على حساب الدستور والقانون ومصلحة الوطن والشعب ، فلابأس اذا عطل الدستور
ما دام الفرقاء السياسيون راغبون بذلك ولو كان ذلك على حساب المصلحة العامة .
2-
تغلب القوة على الحق :- فليس مهما ان تكون على حق او باطل لتنال ما تريد او
يمنع عنك ما تريد ، ولكن ان تكون قويا او ضعيفا ، فأذا كنت قويا اخذت ما شئت ولو كنت على باطل .
فذلك يؤدي الى انعدام سيادة القانون ، وشيوع الوعي بغلبة الاقوياء الذين يضربون
بالقانون عرض الحائط ، وتظهر منهم طبقة فوق القانون من رؤساء الاحزاب والكتل
السياسية والمتنفذين ورجال الاعمال واصحاب الثروة، فلا يستطيع احد مساءلتهم ولو
خرقوا الدستور او ارتكبوا ابشع الجرائم او نهبوا الاموال العامة علنا .
3-
غياب عنصر المساءلة :- فأذا أمن الفاسد بانه لن يحاسب عن افعاله ، فان نمو
الفساد وتجذره يصبح امرا طبيعيا ، وبلا عوائق او مصدات ، وانما يضعف عنصر المساءلة
حينما تكون الرقابة او المساءلة الشعبية منعدمة او ضعيفة ، وحينما تحارب حرية
الرأي والاعلام ، وحينما تتبنى الحكومة اسكات اصوات المنتقدين والمعبرين عن ارائهم
السلبية بها ، عن طريق ادوات القهر وانفاذ
القوانين التي ينبغي ان تستعمل ضد الفاسدين وليس ضد المنتقدين .
4-
حلول الولاء بدل الكفاءة :- حينما تعتمد القيادات السياسية والادارية على معيار
الولاء - سواء اكان الولاء للحزب او الكتلة او الطائفة او الولاء للقائد السياسي
او الاداري نفسه - في التعيين في المناصب
القيادية ، حين ذاك يتسلق اليها الانتهازيون وماسحو الكتوف والجهلة والفاشلون
وانصاف المتعلمين ، على حساب الكفاءات والمهنيين ، فتغيب القدوة الحسنة ، وتقدم
النماذج السيئة - كقيادات مسنودة - لتقتدي الناس بها ، فينتعش الفساد ، وتتوالد
مظاهره ، وتتجذر قيمه في المجتمع ، فانما الناس على دين ملوكهم ، فأذا استقامت
الحكومة استقام الناس .
5-
انعدام الشفافية :- فحينما تخفي الحكومة الحقائق عن الناس ، وتعمل
مؤسساتها خلف الاسوار العالية ، وحينما تدار امور الدولة وتصرف مواردها بطريقة لا
يسمح للشعب والاعلام بالاطلاع عليها ، وحينما تخلط الاوراق عليهم ، عن طريق تسيسس
ملفات الفساد ، ومنع ملاحقة الفاسدين وتعطيل ومحاربة الرقابة والمساءلة بتوفير
الحماية المباشرة وغير المباشرة لممارسات الفاسد ، فأن ذلك انما يلقن الناس درسا
في الاحتيال والغدر ،ويؤدي الى فقدان ثقة الناس بالحكومة ، وشيوع مشاعر التذمر
والتمرد والانفلات لدى طبقات المجتمع المغلوبة على امرها .
6-
ترهل القيادات السياسية والادارية :- فأذا استمر القادة السياسيون او الاداريون في
مناصبهم لفترة طويلة ، فأن ذلك يؤدي الى نمو شبكة المصالح من حولهم ، فيورق الفساد
وتنمو جذوره ، ليصبح شجرة شيطانية عظيمة يصعب اقتلاعها .
ان تلك المظاهر والمعايير مؤشرات واقعية لقياس تراجع او
تقدم الفساد في بلد ما ، فأذا قامت تلك المظاهر فأنها مؤشرات على استمرار تعاظم
الفساد ونموه وتجذره ، اما اذا اختفت كلها او بعضها ، فأن ذلك مؤشر على تراجع
الفساد ، فاين نحن في العراق منها ؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق