الخميس، 2 أغسطس 2012


المعايير الدولية لحرية الرأي
                                                                                           
( حرية الرأي ) و ( حرية التعبير ) من الحقوق الاصيلة للانسان ، وهما حقان متلازمان متكاملان ، لا يخلو دستور في العالم من الاشارة الى وجوب ضمانهما ، وحظيا باهتمام خاص في المواثيق الدولية ، اذ نصت المادة ( 19 ) من الاعلان العالمي لحقوق الانسان :- ( لكل شخص حق التمتع بحرية الرأي والتعبير ، ويشمل هذا الحق حريته في اعتناق الاراء دون مضايقة ، وفي التماس الانباء والاحكام وتلقيها ونقلها الى الاخرين باية وسيلة ودونما اعتبار للحدود ) .
في حين نصت المادة ( 18 ) من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية :- ( 1- لكل انسان حق في اعتناق اراء دون مضايقة . 2- لكل انسان حق في حرية التعبير . ويشمل هذا الحق حريته في التماس مختلف ضروب المعلومات والافكار وتلقيها ونقلها الى الاخرين دونما اعتبار للحدود سواء على شكل مكتوب او مطبوع او في قالب فني او باية وسيلة اخرى يختارها . 3- تستتبع ممارسة الحقوق المنصوص عليها في الفقرة ( 2 ) من اخضاعها لبعض القيود ولكن شريطة ان تكون محددة بنص القانون وان تكون ضرورية لـ :- أ- لاحترام حقوق الاخرين او سمعتهم . ب- لحماية الامن القومي او النظام العام او الصحة العامة او الاداب العامة . ) .
وواضح من النصين المذكورين  ان العهد الدولي فرق بشكل واضح بين ( حرية الرأي ) و( حرية التعبير ) ، بخلاف الاعلان العالمي لحقوق الانسان الذي تحدث عنهما وكأنهما حق واحد .
و( الحق في حرية الرأي ) هو حق الانسان في اعتناق ما يشاء من الاراء والافكار والعقائد والنظريات ، وبعبارة اخرى هو حق الانسان في ان يمارس عمليات التفكير والايمان والاعتقاد بحرية كاملة ، وان يتبنى ما يشاء من الاراء والافكار والنظريات والعقائد بغض النظر عن كونها صحيحة او منحرفة من وجهة نظر الاخرين اومن وجهة نظر المجتمع او من وجهة نظر السلطة الحاكمة ، فهو عملية فكرية داخلية قلبية يعتنق بها الانسان ما يشاء او ما يؤمن به في كل ميادين العلم والحياة والدين وما بعد الطبيعة وغيرها .
و( الحق في حرية الرأي ) حق مختلف عن ( الحق في حرية التعبير ) الذي يمارس فيه الانسان حقه في نقل افكاره واراءه الى الاخرين بطرق مختلفة ، فحرية الرأي هي حرية تنصب على عملية قلبية داخلية تسبق ممارسة حرية التعبير التي تمارس عادة بطرق وادوات ومظاهر خارجية سواء  تمت شفاها او كتابة او برسم او بفن او بصورة وغيرها . 
ويحكم الحق في ( حرية الرأي ) مبدأن :-
المبدأ الاول :- ان الحق في حرية الرأي حق مطلق بلا قيود ولا شروط ولا محددات :- اي ان الانسان حر ، باطلاق كامل ، بلا قيود ولا شروط في ان يعتنق ما يشاء من الاراء ، سواء اكانت اراء لغيره ، او هي اراءه الخاصة التي ابتدعها بنفسه لاول مرة ، وسواء تعلقت بالانسان او الدين او العقائد او العلوم او انظمة الحكم او مؤسسات الدولة وسلطاتها او القوانين او اراء العلماء والفقهاء او الكتب المقدسة  او الرب او السماء او الاشخاص ولو كان مقدسين عند فئة او مجتمع او ديانة ما ... الخ ، وبغض النظر عن كونها تتطابق مع اراء الاخرين او تتقاطع معها ، او تتطابق مع اراء الغالبية او تتعارض معها ، وبغض النظر عن كونها مزعجة او منفرة للاخرين او للسلطة الحاكمة او مفرحة لهم .
فلا حق لاحد - بضمن ذلك السلطة الحاكمة او القضاء - فرض قيود او شروط او محددات على حرية الشخص في ان يعتنق ما يشاء من الاراء والعقائد والافكار والنظريات ، مهما كانت الحجة وراء تلك القيود او الشروط او المحددات ،كأن تكون بحجة ان الاراء او النظريات التي يعتنقها الشخص كفر او زندقة او انحراف او تتضمن اهانة للمقدسات او فيها ما يخل بالاداب او النظام العام او الامن العام او الصحة العامة او باية حجة اخرى ، لان الحق في حرية الرأي حق مطلق لا قيود ولا شروط ولا محددات عليه ، فلا يلاحق الانسان لانه يؤمن بخلق القرأن مثلا ، او لانه يذهب الى انه قديم ، ولا حق لاحد في منعه او مضايقته لمجرد انه يعتقد  بعدم صحة حادثة تاريخية معينة ، او لمجرد انه لا يؤمن بتقديس رجل ما ، او يقيمه عند نفسه بطريقة تختلف عن تقييم غيره له ، ولا يضايق او يعتقل لمجرد انه يؤمن بالشيوعية او الماركسية وهكذا .
وينبع هذا المبدأ - القاضي باطلاق حرية الانسان في الرأي - من طبيعة البشر ،فلا يمكن التحكم مطلقا فيما يؤمن به الانسان وما يرفض الايمان او الاعتقاد به من الاراء والافكار والعقائد والنظريات ، كما انه حينما يعتنق فكر او رأي ما فأنه – في حدود ذلك الاعتناق – لا يؤثر على حق احد ولا يعتدي على حياض حرية الاخرين ، لان اعتناق الاراء والافكار عملية قلبية داخلية ، وبما ان حرية الرأي هي احدى الحريات فأنها لا تقيد الا اذا تضمنت اعتداء على حقوق الاخرين او حرياتهم ، وبما ان حرية الرأي – باعتبارها عملية قلبية داخلية - لا يتصور منها مطلقا ان تكون اعتداءا على حريات الاخرين وحقوقهم فلا وجه لتقييدها او التدخل فيها ، بخلاف حق التعبير الذي يمارسه الانسان بادوات ومظاهر خارجية قد ترتب اعتداء على الاخرين او مساسا بالنظام العام او الاداب او الامن العام لذا جاز وضع قيود معينة عليها بحدود ضيقة جدا .
المبدأ الثاني :- ضمان ممارسة حرية الرأي دون مضايقة :- اذ يفرض الحق المطلق في ( حرية الرأي ) على الدولة واجب ضمانة للاشخاص دون مضايقة او تدخل ، فرغم ان الدولة لا تستطيع نهائيا التدخل – باي شكل من الاشكال - في حرية انسان ما - سواء اكان من رعاياها او اجنبي – في اعتناق ما يشاء من الاراء ، الا انها ملزمة بتوفير اجواء له تمكنه من ذك دون ان تضايقه سلطاتها او التابعين لها ، او يضايقه او يضغط عليه اي شخص او جهة او مجموعة ، اي انها ملزمة قانونا بحماية حرية الفرد في اعتناق ما يشاء من الاراء من جهتين :-
الجهة الاولى :- حماية حرية الرأي من تدخلها ومضايقتها هي ، ويشمل ذلك نوعين من الحماية :-
أ‌-        حماية حرية الرأي من اعتداء او تدخل او مضايقة مؤسسات الدولة وسلطاتها الرسمية بضمنها السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية بل والقضائية ايضا ، فلا حق لاية جهة في مضايقة الافراد او التدخل في شؤون اعتناقهم لاي رأي او معتقد .
ب- حماية حرية الرأي من تدخل او مضايقة او اعتداء الرسميين التابعين لها - سواء اكانوا موظفين او مكلفين بخدمة عامة ، معينين او منتخبين - حين ممارستهم مهامهم الرسمية .
فلا يحق للدولة ولا للتابعين لها ولا مؤسساتها بضمنها المحاكم ملاحقة او اعتقال او محاربة او مضايقة اي فرد او مجموعة لمجرد انها تعتقد انهم يعتنقون فكرا منحرفا او اراء مخالفة للنظام العام او نظريات تخل بالاداب العامة ، او انهم يكفرون بالدين او بمعتقد مقدس عند جماعة فيها ، او يتبنون معتقدات فاسدة او منحرفة او اباحية ، فلا حق للدولة في اتخاذ اي اجراء ضد انسان او جماعة بناء على ما يحملونه او ما يؤمنون به من دين او معتقد او فكر او رأي مهما كان في ذاته منحرفا او خارجا عن المقبول او المألوف ، او متعارضا مع فكر الغالبية او دينهم او معتقداتهم ، فلا يحاسب الانسان عن ما يؤمن به او يعتقده مطلقا .
ولا يقف واجب الدولة هنا في حدود الجانب السلبي من موقفها من حرية الرأي بالامتناع عن الاتيان باي فعل يعد ملاحقة او مضايقة للافراد في اعتناق ما يشاءون ، بل يمتد واجبها ازاء حرية الرأي الى صورة ايجابية تتمثل بتوفير البيئة المناسبة لممارسة هذه الحرية بلا مضايقة والا كانت منتهكة لحقوق الانسان وغير ممتثلة للمعايير والاتفاقيات الدولية .
الجهة الثانية :- حماية حرية الرأي من تدخل او مضايقة الافراد الاخرين والجماعات والمؤسسات غير الرسمية داخل الدولة ، فلا يقتصر واجب الدولة في حماية حرية الفرد في اعتناق الاراء على ضمان حمايتها من تدخل مؤسساتها وسلطاتها والتبعين لها فقط ، بل يمتد ليشمل واجبا اهم في حماية حرية الفرد من مضايقة او تدخلات الافراد والجماعات سواء اكانت منظمات او جماعات شرعية او غير شرعية ، وسواء اكانت خاضعة للقانون او خارجة عنه باي صيغة كانت ، ويشكل ذلك منظمات المجتمع المدني والاحزاب والعشائر وغيرها .
فالدولة – اذن - لا حق لها في التدخل - مطلقا – باي شكل في حرية الانسان بالرأي ، ولكن عليها واجب حماية حقه هذا بان يمارسة دون مضايقة او تدخل او اكراه  ، وقد نصت المادة ( 37 / ثانيا ) من الدستور العراقي الدائم لعام 2005 :- ( تكفل الدولة حماية الفرد من الاكراه الفكري والسياسي والديني . ) .
والحقيقة ان واجب الدولة في حماية حرية الرأي لا يقف عند حدود منع الاكراه الذي ذكره الدستور العراقي ، بل يتعداه الى توفير الاجواء المناسبة لممارسة حرية الرأي دون مضايقة على حد تعبير الاعلان العالمي لحقوق الانسان والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية .
ومع ان ( حرية الرأي ) حق مستقل من حقوق الانسان عن حقه في ( حرية التعبير ) الا ان البشر مجبول على نقل ما يؤمن به من اراء وافكار ونظريات وعقائد الى الغير ، بل واحيانا نشرها على نطاق واسع ، وهذا هو الرابط المتين بين ( حرية الرأي ) و ( حرية التعبير ) . فما هي المبادئ التي تحكم حرية التعبير ؟ لنا عودة في مقال لاحق .
                                                                                                            القاضي
                                                                                                     رحيم حسن العكيلي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق