تجريم ارتشاء ابو الكباب
القاضي
رحيم حسن العكيلي
وضعنا عام 2010 مشروع قانون لمكافحة الفساد يستجيب لبعض متطلبات اتفاقية
الامم المتحدة لمكافحة الفساد التي صادق عليها العراق عام 2007 ومن بين نصوصها نصا
يجرم الرشوة في القطاع الخاص ، وحينما عرض على مجلس الوزراء - لاقراره كمشروع
قانون لعرضه على مجلس النواب - شكل لجنة لدراسته واعادة النظر فيه ، فاعترض احد القانونيين
في اللجنة مستهزءا ( وما علاقتنا برشوة
ابو الكباب ، وما شأننا في الفساد في القطاع الخاص ) ، و وافقه الاخرون بشدة ، فعلمت
حين ذاك مستوى علم من اتعامل معهم .
وحدثتهم انه حصل ان تبرعت احد المنظمات الدولية بكراسي متحركة للمعوقين
وسلمتها الى منظمة مجتمع مدني عراقية لتوزيعها على المستحقين مجانا ، فاستغل بعض
العاملين في منظمة المجتمع المدني العراقية الامر ، فاشتراطوا على المعوق دفع خمسين
الف دينار لادخال اسمه ضمن المستحقين .
ومن وجهة نظر قانونية فأن فعل هؤلاء فعل مباح غير مجرم في التشريع العراقي
اذ لا وجود لجريمة الرشوة في القطاع الخاص .
واستعانت وزارة التخطيط بشركة خاصة لاجراء فحوصات التقيسس والسيطرة النوعية
على البضائع الداخلة للعراق ، فلو اخذ الموظف رشوة في مقابل امرار البضاعة الداخلة
بلا فحص او خلافا للتعليمات فيعد فعله مباحا لا اشكال فيه .
وكانت النية في الاستعانة بشركة خاصة في مواضيع اجازات تسجيل السيارات (
السنويات ) وارقام المركبات ، ولو تعاطي موظف تلك الشركة رشاوى لامرار او تسهيل
بعض المعاملات فلا يحق لاحد ملاحقته عن جريمة الرشوة لانه لا يحمل صفة الموظف ولا
المكلف بخدمة عامة ، وانما تنحصر جريمة الرشوة في القانون العراقي بالموظفين
والمكلفين بخدمة عامة .
وحدثت ( ابو الكباب ورفاقه ) بان قوانين اجنبية وعربية تجرم بعض مظاهر
الرشوة في القطاع الخاص بنصوص خاصة ، قبل ان تدعو اتفاقية الامم المتحدة لمكافحة
الفساد الى تجريمها وبطريقة اوسع بكثير مما تتطلبه الاتفاقية ، اذ نصت المادة ( 106 ) من قانون العقوبات
المصري – المنقولة عن الفقرة الخامسة من المادة ( 177 ) من قانون العقوبات الفرنسي
– على ما يلي :- ( كل مستخدم طلب لنفسه او لغيره او اخذ وعودا او عطية بغير علم
مخدومه ورضائه لاداء عمل من الاعمال المكلف بها او للامتناع عنه ، يعتبر مرتشيا
ويعاقب بالحبس مدة لا تزيد على سنتين وبغرامة مالية لا تقل عن مائتي جنيه ولا تزيد
على خمسمائة جنيه ) .
فهذه المادة تعاقب المستخدمين المرتشين ، ولم يستلزم النص صفة خاصة في
المستخدم فيصح ان يكون مستخدما في شركة
تجارية او صناعية او زراعية او محل تجاري وما شابه ([1])
، وهو نص تجاوز ما تريده الاتفاقية التي اكتفت بالدعوة الى تجريم الرشوة في كيانات
القطاع الخاص كالشركات والبنوك ومنظمات المجتمع المدني والنقابات والاتحادات
والنوادي ...الخ .
وتشترط المادة ( 177 ) من القانون الفرنسي في تجريم ارتشاء المستخدم ان
يكون من العاملين باجر ، وان كان لا يهم وسيلة دفعه سواء نقدا او عينا او نصيبا من
الارباح ، ولا مواقيت الدفع كأن يكون يوميا او شهريا او اسبوعيا او سنويا . ولا
يشترط وجود عقد عمل بل يكفي مجرد التكليف باجر ، كما لا يشترط دائمية العلاقة بالعمل
.
وعاقبت المادة ( 22 ) من قانون العقوبات المصري ( الاطباء والجراحين ومن في
حكمهم ) ممن يعملون في مهنة حرة اذا طلبوا لانفسهم او لغيرهم او اخذوا وعودا او
عطايا لاعطاء شهادات او بيانات مزورة بشأن حمل او مرض او عاهة او وفاة ... باعتبارهم
مرتشين ، وتلك الجريمة هي جريمة مختلفة عن
جريمة تزوير تلك الشهادات او البيانات الطبية ، فلو ضبط الطبيب - الذي يعمل
لمصلحته في عيادته - وهو يطلب مبلغا لاعطاء تقرير طبي على خلاف الحقيقية فأنه يعد
مرتكبا لجريمة الرشوة ، ولو كان لا ينوي
اعداد الشهادة المطلوبة ، وهذا شكل من اشكال الرشوة في القطاع الخاص ، يتضمن محتو
اوسع بكثير مما تتطلبه الاتفاقية .
وعدت المادة ( 298 ) من قانون العقوبات المصري الشاهد الذي يقبل عطية او وعدا بشئ ما لاداء
شهادة الزور مرتشيا وفرضت عليه العقوبة الاشد من عقوبتي الرشوة او شهادة الزور ، وهذه صورة اخرى للرشوة في القطاع الخاص وتقع
الجريمة بها كاملة ولو لم يشهد الشاهد زورا . وهي ايضا تتضمن توسعا عما دعت الاتفاقية
الى تجريمة من مظاهر الرشوة في القطاع الخاص .
أن عدم الانصاف والظلم واضح في الكثير من الممارسات التي تعد من صور الرشوة
في القطاع الخاص مثل تجاوز الدور في عيادات الاطباء في مقابل رشاوى تدفع للواقفين
بابوابهم على حساب معاناة اخرين من المرضى ممن يعجزون عن دفع مبالغ مماثلة وهو
تصرف مرفوض اجتماعيا واخلاقيا ولابد من مواجهته .لكن فقهائنا من وعاظ السلاطين في
العراق لم يمر ببالهم من مظاهر الرشوة في القطاع الخاص سوى ( ارتشاء ابو الكباب )
لذا رفضوا بشدة امرار النص ، رغم انني حدثتهم بكل ما ذكرته هنا .
فاكتشفت حينها اننا في العراق لا نعاني من انعدام الارادة السياسية لمكافحة
الفساد فحسب ، بل نعاني ايضا من انعدام الارادة الفنية لصياغة الاطر القانونية
الملائمة بسبب تدني المستوى العلمي لبعض
اشباه القانونيين الذي يتحكمون بالبلاد والعباد ، بل ويتلاعبون بقادة البلاد ايضا .
ان مكافحة الفساد في القطاع الخاص لا تقل اهمية عن مكافحة الفساد في القطاع
العام ان لم تكن اهم منها ، بل ان معظم الفساد في القطاع العام انما يتسرب اليه من
ممارسات القطاع الخاص ، وانما يشترك الفاسدون في القطاعين غالبا لامرار سرقاتهم
وتقاسم الغنائم ، لذا فأن الاتفاقية تركز على معالجات الفساد في القطاع الخاص
طريقة مماثلة لتعرضها لمعالجة الفساد في القطاع العام .
وعموما فأن القصد من تجريم الرشوة في القطاع الخاص - وفقا لما تنص عليه
الاتفاقية - هو حماية كيانات القطاع الخاص نفسها من الافعال غير المشروعة للعاملين
فيها ، وحماية المتعاملين مع تلك الكيانات - كالشركات والمصارف ومنظمات المجتمع
المدني - التي قد تتولى القيام بمهام عامة ذات مساس مباشر بالناس وحقوقهم .
فهل سنجرم ( الرشوة في القطاع الخاص ) ام ان نظرية ( ابو الكباب ) هي
الراجحة .
القاضي
رحيم حسن
العكيلي
اب / 2012
.
[1] - د . كامل السعيد – شرح
قانون العقوبات – الجرائم المضرة بالمصلحة العامة – دراسة تحليلية مقارنة – ط1 –
الاصدار الاول – 2008 – دار الثقافة للنشر والتوزيع – عمان – وسط البلد – ص432
و433